العابر عضو جديد
عدد المساهمات : 4 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 25/12/2010
| موضوع: المثل الدارج عند الخليج عامه والسعودية خاصة (الله يرحم مزنة) السبت ديسمبر 25, 2010 5:53 am | |
| المطرودية
مزنة بنت منصور المطرودي من قبيلة بني خالد د. عبدالله محمد الغذامي
تأتي حكاية المطرودية كأحد الحكايات الشعبية المترسخة وهي حكاية غريبة فعلا، حسب مقاييس أي مجتمع ذكوري، وقصة هذه المرأة بدأت حينما ذهب والدها وإخوانها وكل رجال الحي إلى صلاة الجمعة، وكانت المسافة بين قريتهم (العوشزية) وعنيزة مسافة كبيرة تبلغ سبعة كيلومترات، ومن هنا فإن غيبة رجال القرية ستكون طويلة خاصة أن الرجال تعودوا أن يرتاحوا بعد صلاة الجمعة لشرب القهوة في منزل أحد معارفهم في عنيزة ويظلوا هناك إلى قرابة مغرب الشمس حيث يعودون إلى أهلهم. كانت تلك عادتهم على مر الأيام حيث يتركون النساء وحدهن في فضاء مكاني واجتماعي لارجل فيه، ولقد ترصد بعض شباب البادية هذه الحالة وخططوا لسرقة مواشي المطرودي وفيها إبل وغنم كثير، وهذا ماصار. وتمت عملية استجماع الماشية وشرع البدو في قيادة الغنيمة متجهين شرقا على عكس طريق عنيزة، ولم يكن في الحي رجال ينقذون الموقف، وهناك تحركت مزنة بنت منصور المطرودي، وقد أحست بالغيظ من ضياع حلال والدها هكذا عنوة وبماء بارد، وما كان منها إلا أن فتشت عن ثياب لأخيها في المخزن فارتدها ووضعت العقال على رأسها وأحاطت وجهها بلثام باستدارة الشماغ، وقفزت على ظهر الفرس وجاءت بالنساء ليحطن بها من بعيد متخفيات بأنواع من اللبوس وكأنما هن من بطانة الفارس الملثم، ثم هبت هبة سريعة تعدو بفرسها باستعراض دائري لايقترب كثيرا من البدو ولكن تكون على مرأى منهم وكأنما تتهيأ لهجمة تباغت اللصوص وتحصد رؤوسهم، وظلت تدور وتستعرض مرتين أو ثلاثا حتى أحدثت في نفوس اللصوص رهبة وتحفزا لما يمكن أن يحدث لهم من هذا الفارس الذي فاجأهم وقد كانوا يظنون المكان خاليا من الرجال، وهنا اقترب الفارس الملثم وقد نضجت قلوب البدو خوفا ومفاجأة، حتى خاطبهم الفارس الملثم بصوت أجش مقتضب الكلام قصير الجمل وبروح آمرة ومتغطرسة تأمرهم برد المواشي والاتجاه أذلاء نحو البيوت عائدين، تقول هذا وهي تنطلق بفرسها في دائرة طويلة تحيط بالمكان من بعيد مشهرة البندقية ومستعرضة على الفرس ومع حركات تتبادلها مع صواحبها من النساء المتربصات من بعيد وكأن الجميع يمثلن خطة عسكرية في التطويق والانقضاض.
بعد كل هذا الاستعراض المهيب استسلم البدو وقرروا رد المواشي ولكنهم سألوا من نحن بوجهه، فقالت لهم: أنتم بوجه حماد المطرودي، قالتها بصوت أجش استسلموا معه وعادوا مع الغنيمة إلى بيوت المطرودي، وهناك نزلوا في الضيافة لتأتيهم القهوة ويأتيهم وعد بالعشاء الذي راحت مزنة ونساء العائلة يجهزنه للضيوف الأعداء، إلى أن حضر الرجال عائدين من عنيزة وعلموا بالخبر وصاروا يرحبون بضيوفهم ولم ينكشف الأمر إلاحينما أصر البدو على معرفة الفارس الذي واجههم في تلك الظهرية، وهنا أبلغهم الأب أن الفارس لم يكن سوى بنته مزنة.
هنا جاءت الحكاية لتتحول إلى أسطورة اجتماعية وثقافية تدور على كل لسان وصارت مادة لسواليف النساء والرجال، ومن الطريف أن فخر الرجال بالمطرودية لايقل عن فرحة النساء بها وتباهيهن بقدرة المرأة وشجاعتها وقوة عقلها وحسن تدبيرها.
لقد صارت مصدرا لخيال ثقافي عريض وأصبحت قصة المطرودية مادة مستديمة لأي مجلس شعبي، ولقد وعيت هذه القصة من طفولفتي وأدمنت الاستماع إليها وهي قصة لاتتركك تنساها لأن كل إنسان وإنسانة يذكر انك بها.
ولقد وجدت المطرودية نفسها بعد تلك الحادثة مطلباً للخطاب من فرسان العرب، وشاع خبرها في مجالس الملوك والأمراء حتى خطبها ابن جلوي وراحت عنده في الشرقية، وأنجبت الامير (عبدالله بن جلوي) امير الاحساء الشخصية الاسطورية التي قد لاتتكرر وهو من ساهم مع ابن عمة المؤسس الملك عبدالعزيز بتوحيد المملكة واستطاع قتل ابن عجلان باالدرعية) وكأنما هي شخصية أسطورية غير قابلة للتكرار بما إنها معنى وحيد ومتعال ويبقى رمزا بشريا في الدهاء والنباهة.
القصة واقعية وحقيقية ويسعى المؤرخون إلى تثبيتها والتدقيق في تفاصيلها، ولكن واقعيتها تقلل من قيمتها الخيالية حيث إن النساء في مجالسهن يروين القصة لابوصفها حادثة واقعية تاريخية وإنما بوصفها سبحانية تعمر الخيال، وكنا ونحن أطفال نستمع إلى الحكاية مستلهمين المتعة منها في تصور البنت وهي تمتطي الفرس ثم وهي تغير من نبرات صوتها ليكون ذكوريا وهي تغطي وجهها وتعمم رأسها حتى لتختفي كل آثار الأنوثة عليها، وقد أتقنت هذا الدور التمثيلي حتى خدعت شبابا من شباب البدو هم عادة من أهل النباهة ودقة الملاحظة. وتقول الحكاية إن البدو حاولوا الدخول في تبادل لفظي مع هذا الفارس كامتحان له على مدى شجاعته وكمحاولة لكشف مواطن الضعف عنده ولكن الملثم (الملثمة) كان على حذر شديد من ذلك واستعان /استعانت بحركات الاستعراض الفروسية والدوران على المكان بإحاطة تشبه استعراض الطائرات الحربية في مناوراتها ذات التأثير النفسي ورسم صورة بصرية وصوتية تداخل رؤية المشاهد وتملأها بالرعب والتحفز، وهذا ما فعلته المطرودية لتجنب مصيدة اللغة. ولقد نجحت في رسم صورة بصرية وإبحائية ملاًت فضاء القرية والصحراء المحيطة بها وأدت قدراتها الاستعراضية إلى الإيقاع بالخصم وتشبيكه في الخوف حتى استسلم وطلب النجاة والحماية، وجاءته الحماية والضيافة وهما شرطان سرديان لاكتمال الحكاية كي يتحقق الكشف عن اللعبة ويصبح الحدث حكاية وتصبح البطلة شخصية رمزية تحكي عنها المجالس ويطلب يدها الأمراء، ولو نقص شيء من عناصر الحدث، خاصة عنصر استضافة البدو ثم طلبهم رؤية الفارس الذي هم في وجهه، لولا هذا الموقف لماتت القصة ولم تتحول إلى حكاية.
إن الواقع قادر على تحويل نفسه إلى حكاية إذا توفرت شروط الحبكة وإذا تولدت القصة عن عناصر قابلة للتمدد القصصي. ولقد دخلت قرية العوشزية تاريخ الذاكرة الشعبية بسبب هذه القصة وصار لاسم هذه القرية وقع شعري سردي له إيجاء غزير، أما المطرودية فعلى الرغم من واقعية القصة وواقعية الاسم - وهو اسم لعائلة معروفة ولما تزل - إلا أن هذه الواقعية التاريخية لم تقلل من شأن الجانب السردي في القصة حتى لكأنها خيال شعبي، حتى وإن كانت واقعة مشهوداً عليها ومثبتة.
وبقي لي أن أشير إلى أن معرفتي وسماعي المتكرر بالقصة من مصادر روائية موثوقة من بينهم والدي ووالدتي رحمهما الله، إلا أنني - مع هذا - استأنست بما ذكره الدكتور عبدالعزيز الخويطر في كتابه (وسم على أديم الزمن) وهو يروي الحادثة بتوثيق حريص خاصة أن له بعائلة المطرودي وشائج قربي تزيده تدقيقا في الوقائع، أما أنا فهمي هو مافي القصة من رمزية سردية تفيد في كتاب يطرح قصص النساء وحكاياتهن ولغتهن. وفي معنى تلبس المرأة رمزيا بلباس الرجل لكي يكون لها قيمة اجتماعية وعملية، وفي هذا مافيه من رمزية ثقافية ونسقية، هي موضوع كتابنا هذا.
فرحمك الله يامزنة .. | |
|